في
الأربعاء 22 يناير 2025

منشورات صحفية
مقال منشور
آفة التشكي

آفة التشكي
جريدة الجزيرة
التاريخ 10-22-2009
رقم العدد 13538
التفاصيل
آفة التشكي
د. عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز السبيعي



من سمات عصرنا الحالي التوجُّع الدائم والتَّشكي المستمر وكأن حياتنا كلها شر متواصل وسلبيات متتابعة لا خير فيها، وكثير من الناس يعشقون العيش في دور الضحية، ويهولون المواقف التي تمر عليهم، ويبدعون في حشد الكثير من العوامل والأسباب التي تقف وراء عدم تحقيق أي مصلحة لهم، وحتى عند فشلهم، فتجدهم يبررون بمبررات غير واقعية، فيوهمون أنفسهم بتلك الأسباب والعوامل؛ حتى تصنع لهم درعاً كبيراً من اليأس وكتلا من الأحزان فتضيق عليهم سبل الحياة.

وهذا في الواقع منطق غريب جداً...!!! إذ كيف يتجرد المرء تماماً من كل مسؤولياته تجاه نفسه، ويرجع ما يحدث له إلى أسباب وعوامل خارجية؟ وكيف يقف المرء عاجزا مكتوف الأيدي أمام العقبات التي تعترض طريقه؟! وكيف تتصدع حياته وتتزلزل الأرض من تحت قدميه، وتميد به من كل ناحية وهو يقف مشدوها لا يحرك ساكنا..؟!!

كثيرة هي الأحداث المتسارعة والمتغيرات التي تمر على أمتنا، فلا تكاد تنطفي نار نازلة إلا وتأتي أختها، وفي خضم تداعيات النوازل والمستجدات نجد الناس بين شاكر وحامد، وبين متذمر وناقم، والكثير الكثير يرمي مسؤولية هذه الأحداث والنوازل على البشر؛ بين أفراد ومؤسسات ونسي قول الحق تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد: 22) قال الحسن البصري - رحمه الله -: أفسدهم الله بذنوبهم في بر الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة.

أسمع التشكي كثيراً بل قد ألفته أذناي من هنا وهناك: من الصغير والكبير، من الرجل والمرأة، من الغني والفقير، من العاقل الناضج، ومن الغر الأحمق..!! وأتأمل في أحايين كثيرة في سر هذا التشكي، وكيف الإنسان العاقل يلقي باللوم على من حوله ولا يحمل نفسه أي شيء؟!! والذي أثار شجوي وقلقي وانزعاجي: أن هذا النمط السلبي في التفكير يزيد ويفاقم المشكلات ولا يعالجها، ويتغلغل في أعماق النفس البشرية، ويترسخ في العقل الباطن ويصبح سمة بارزة للفرد أو الجماعة، وطريقة في تفاعلها مع الأحداث وتفسير وقائع الحياة المختلفة.

لم أسمع إلا من القليل القليل عبارة الشكر لله وحده ثم لمن ولاه الله علينا - ولاة أمرنا حفظهم الله تعالى - على ما نعيشه من نعم كثيرة، أولها وأهمها نعم الأمن والأمان، ونعمة العيش الرغيد، ولو أن أحدا من هؤلاء يخرج يمينا أو شمالا لعرف ما نعيشه من نعمة عظيمة والله جلا وعلا يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (الروم:14).

كنت في زيارة لإحدى الدول العربية مع وفد من الجامعة، فكان من برنامج الزيارة زيارة إحدى جامعات تلك الدولة، فرأيت العجب.. الأثاث القديم، والإمكانات الضعيفة، والمرتبات القليلة... إلى غير ذلك فحمدت الله تعالى كثيرا على ما نجده في جامعاتنا من توفر للكثير من الإمكانيات، وما وفرته لنا دولتنا من مرتبات عالية تفوق الكثير من الدول العظمى فالحمد لله على نعمه التي لا تحصى قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ...} (الروم: 14).

إننا كثير ما نسمع أن الحكومات العربية هي المسؤولة عن تدني حالة الشعوب في شتى المجالات... ويلقى الناس باللائمة على صناع القرار وكأنهم وحدهم يعيشون في هذه الحياة ويتحكمون فيها، فالأزمات المالية وانهيار البورصات سببها الحكومات، وانتشار الأمراض الفتاكة المعدية كإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنزير سببها الحكومات، وارتفاع سن الزواج وزيادة معدلات الطلاق سببها الحكومات.... وتدني الأخلاقيات على أكثر من صعيد سببه الحكومات، وانهيار الرياضة وعدم تحقيق مراكز مشرفة في الدورات الأولمبية سببه الحكومات... وانتشار البطالة وانتشار الفقر سببه الحكومات وهكذا...

وإذا دققنا في هذا الكلام لوجدناه يفتقر إلى المعايير الموضوعية المنهجية التي تساهم في إيجاد الحلول أو على الأقل فهم الواقع ومشاكله بطريقة صحيحة غير مضللة أو خادعة كما يفعل الكثيرون مع أنفسهم...!

ولنسأل سؤالاً ضرورياً: ما المجتمع؟ ببساطة شديدة وبعيدا عن التعريفات الإجرائية الأكاديمية نقول: إن المجتمع هو مجموعة من الأفراد يعيشون في أسر ومنظومات اجتماعية معينة، ويشكلون مؤسسات مختلفة تعمل في مختلف مناحي الحياة ويرتضون لأنفسهم منظومة قيمية يعيشون وفق مبادئها ومثلها.. وتحكمهم حكومة منهم تطبق فيهم ما اتفقوا عليه من أنظمة وأنماط الحكم.

إذن المجتمع في النهاية ما هو إلا مجموع أفراده الذين يتشكل وعيهم وتصاغ شخصياتهم في المنزل والمدرسة والحي وفق ما يغرسه فيهم من مبادئ وقيم تربوية معينة.

صحيح أن الحكام لهم دور رئيس ومحوري في صنع توجهات الناس، وكما قيل: (الناس على دين ملوكهم) وصحيح كذلك: (أن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن..) لكن هذا لا ينفي دور الإنسان في الحياة.. ولا ينفي مسؤوليته عما تقترف يداه..!!.

إن مقولة الحكومات هي السبب فيما نعيشه من مشاكل وأزمات أشبه بحيلة نفسية دفاعية التي يلجأ المرء إليها ليريح نفسه من تبعاته ومسؤوليته تجاه ما يمر به من مشكلات.

وفي رأيي أن هذا الزعم يتعارض مع صحيح الإسلام، فالإنسان له مسؤولية مباشرة عما يحدث له، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (طه: 124).

ولو بحثنا في أي مشكلة من المشاكل التي تواجهنا الآن لوجدنا خلفها مجموعة من العوامل والأسباب في مقدمتها المسؤولية الفردية لكل شخص، وتتسع دوائر المسؤوليات وتتداخل بحسب تداخل الأفراد والمؤسسات... فعلى سبيل المثال مشكلة البطالة: فقد وضعت الحكومات الأنظمة واللوائح التي تسهم في تقليص هذه الظاهرة إلى أدنى مستوى، لكنها تتفاقم مع الوقت فأين الخلل؟.. هل هو نقص في القوانين والأنظمة المتعلقة ذات الصلة؟ أم خلل في التطبيق أم تقصير من المؤسسات المدنية؟ أم تقصير من العاطلين أنفسهم .

إن القوانين وأنظمة السعودة الشهيرة مُلزِمةٌ بتعيين نسب محددة من السعوديين في الشركات والمؤسسات... وقد عقدت الندوات والمؤتمرات.. وأنشئت اللجان المتخصصة لبحث الموضوع ووضعت الحلول والنتيجة نعرفها جميعا... وقس على ذلك: مشكلة البورصة وحمى الضنك والأمية... وغيرها من المشكلات ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وهذا الكلام ليس القصد منه محاباة المسؤولين.. بل هو دعوة مخلصة للتأني في إصدار الأحكام والتشكي الذي ليس له داع... وأمل حار في أن ننهج جميعا بطريقة مختلفة عند بحث مشاكلنا والتعامل معها.. فما أسهل كيل الاتهامات للآخرين والتشكي في المجالس والمنتديات... وما أسهل توجيه اللوم لكل إنسان.. ولكن هذا كله لن يسهم في حل المشكلة ولن يجدي نفعا؛ لأنه إلحاح على الفشل وترسيخ لمنظومته الفكرية... أما النجاح فيحتاج منهجاً آخر يقوم ببحث المشكلات المختلفة بهدوء وتحليل أسبابها بكل حيدة وموضوعية وتحميل كل طرف مسؤوليته الحقيقية لينهض بأعبائه كاملة.

ونقطة أخيرة أود الحديث عنها وهي: (الأمل والتفاؤل) نعم علينا أن ننظر للحياة بمنظار آخر غير الذي اعتدنا كثيرا النظر من خلاله.. فالحياة فيها الخير والشر والإيجابيات والسلبيات.. وهذا هو ديدنها قد خلقها الله تعالى... والإنسان خلق ليكابد ويتعب في الحياة الدنيا وليبتلى بالخير والشر، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق: 6)، وقال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد } (البلد:4)، والمعنى المراد، والله تعالى أعلم: أن هذه الحياة الدنيا سيكون فيها من المشقة والمعاناة والمنغصات ما فيها.. والإنسان مطالب بتجميل الحياة وصناعة البسمة على الشفاه، ورسم الابتسامة على وجوه الجميع.. فلنسع جميعا في نشر ثقافة الأمل ولنحمل البشرى لكل من نلقاه.. ولننظر إلى هذا الحديث الشريف (تبسمك في وجه أخيك صدقة) إننا مطالبون بتعمير الكون وإبهاج أنفسنا وإسعاد الآخرين فلنقلل من اللوم والتشكي على الآخرين.. ومن الضجر لنسعد بما وهبه الله لنا من خير ونعم لا تعد ولا تحصى.. ولنفكر في حل مشكلاتنا التي لا بد منها بطريقة مبتكرة تفهم الأسباب الحقيقية ونجتهد في حلها والتغلب عليها ونوجه كل طاقاتنا الإنسانية بطريقة إبداعية تعمر وتبني لا تفسد وتدمر.

والله تعالى الموفق لكل خير {إن أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).

- عميد كلية المجتمع بمحافظة شقراء

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.

الرئيسية |الأخبار |المقالات |راسلنا | للأعلى
get firefox
Copyright © 2025 mkhtlfat.net - All rights reserved